مناهج وأساليب العرفان

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله الكرام

مناهج وأساليب العرفان

إن الخوض في مناهج العرفان والأخلاق قديمها وحديثها، قد يأخذنا إلى بحث طويل سنحاول فيما هو أتٍ أن نختصر لكي لا يصبح المطلب مملا للمتلقي الكريم، لذلك ستكون رؤيانا لمناهج العرفان، والأخلاق المختلفة رؤيه حضارية حديثه مبنية على التقييم العملي أي نجاحها من فشلها، حيث سنجري مقارنة بين المناهج القديمة، والمنهاج العرفاني الحديث الذي نحن بصدد تقديمه عبر هذا الموقع، فنسأل من الله العلي القدير أن يطرح فيه البركة وتعم الفائدة وتصل إلى الأعم الأغلب من المؤمنين الباحثين عن وجه الله ومرضاته واتباع الحق أينما كان.

حيث يمكن تقسيم هذه المناهج إن صح التعبير إلى قسمين:

أولأً: المناهج العرفانية التقليدية أو القديمة
ثانياً: المنهج العرفاني الحديث أو المحدث

اولاً: المناهج العرفانية التقليدية أو القديمة

لا يمكننا إغفال الفائدة التي أعطتها هذه المدارس للمريدين من أخلاق وتربية روحية ولا زالت، لكن وكما قدمنا في الحقول الأخرى وخاصة بعد بروز وانتشار المنهج الحديث على يد المجدد، والمصلح المولى المقدس محمد صادق الصدر قدس سره ظهرت عيوب كثيره في هذه المناهج من نمطٍ كلاسيكي تقليدي رتيب متوارث من جيل إلى جيل لا يواكب تكامل العقل البشري في العصر الحديث، ولا يلبي الاستعداد الأخلاقي الباطني لدى شريحة كبيرة من المجتمع والباحثة عن الحقيقة ومطلعة ومتأثرة بما حولها من مدارس فلسفية عميقة عن الوجود، ودور وموقع الانسان وسط هذا العالم، مما أدى إلى خسارة مثل هذه الطاقات وذهابها وتوجهها بل واعتناقها لمنابع معرفية خارج إطار المذهب، بل قل خارج الدين الإسلامي، فحتى المذاهب والمدارس الغير إسلامية تقدمت وتطورت مثل البوذية، والثيوصوفية، وعلوم الباراسايكوجي وغيرها حتى أصبحت قبلة لكل باحث وطالب للحقيقية من شتى الأديان حتى أنها غزت الغرب من أوربا وأمريكا قبل أكثر من قرن.

بينما بقيت مناهجنا المعرفية، والأخلاقية على حالها دونما تجديد ولا تحديث منذ سنين طويلة خلت فأمست لا هي نازلة ومتواصلة مع المجتمع وأداء واجبها الأخلاقي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا هي مرتقية ومحاكية للصفوة والنخبة من طلاب الحقيقة، لا بل لا زالت تصر على منهجها التقليدي الذي لا يحاكي إلا ثلة معينة، وكأن العرفان والأخلاق صارت حكراً على هذه الفئة دون غيرها.
ويمكن إرجاع ذلك إلى أسباب وعوامل عدة نحاول اختصارها بعدة نقاط:
1. ارتباطها بالحوزات العلمية التقليدية، واصتباغها بالعقلية الأصولية الفقهية الأمر الذي أثر على آلية عمل هذه المناهج، والأساليب المتبعة في الدعوة لها.
2. قناعة أصحاب هذه المناهج والقائمين على إيصالها بأنها لا تصلح للعامة، ولا يستحقها إلا نخبة وفئة معينة أو بالأحرى أنهم حدوها بالحوزات الفقهية التقليدية، وطلبتها دون غيرهم ذلك أنهم اشترطوا إكمال المقدمات الحوزوية لدخول هذه المراحل الأخلاقية أو العرفانية لا بل يجب أن يشهد للمريد أنه من أفاضل الحوزة، وهذا ما ثبت خطأه حسب تجربتنا ومعايشتنا طيلة بقاءنا بين هذه الحوزات.
3. والأهم هو المحتوى الذي تطرحه المدارس القائمة على هذه المناهج، من فهمٍ خاطئٍ للمبادئ الأخلاقية، والعرفانية الحقة الواصلة إلينا من القرآن وأحاديث العترة الطاهرة.
الأمر الذي أدى إلى انحراف هذه المناهج وتنزلها نحو النورانية* لا بل حتى الروحانية* وهي طرق غير عرفانية كما ثبتت لدينا في المناهج العرفانية الحديثة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى اضمحلال هذه المناهج واختزالها إلى أمور تعبدية خاصة بالفروع دون الاصول وهذا ما نلمسه اليوم عند المدارس الأصولية، فاستفتاءات الناس حول العرفان تكون الإجابة عليها دائماً أنه أي العرفان ليس سوى طرق صوفية دخيلة على مذهب التشيع الامامي، وتكاد تكون محدودة لدى بعض الحوزات خارج النجف بمبادئ الأخلاق وبعض المستحبات وهذا أمرٌ جلل فيه مخالفة صريحة لتعاليم وتوصيات رسول الله وآل بيته الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين.

4. وكما ذكرنا أعلاه عدم مواكبة المؤسسات القائمة على هذه المذاهب للتطور الحاصل من حولها، والثورة الفكرية والعلمية وفي شتى مجالات العلوم والحياة، وكأنها تعيش في قوقعة معزولة عن العالم.

ثانيا: المذهب العرفاني الحديث، وجوهر اختلافه وافتراقه عن المذاهب العرفانية القديمة

يكمن جوهر الاختلاف والافتراق بين المذهبين القديم والحديث في فهم طريق العرفان بأسلوب ذوقي تربوي روحي لا بأسلوب تعبدي ظاهري لا جوهر فيه، حيث يعتمد المذهب القديم على المكاشفات النورانية الوهمية والكرامات الشبه نفسية، والتركيز على تعاليم وإرشادات متوارثة لا تقدم فيها ولا تجديد من قبل الخلف الذي يستلم من السلف مما أدى إلى وبحسب نظرتنا نحن أصحاب المذهب الحديث إلى دخول أتباع هذه المذاهب في خطوط عرضية ظاهرية وهمية، بدل الدخول والوصول إلى الخط الطولي المؤدي إلى المرحلة الأعلى، وهكذا صعوداً فالبقاء في نفس المقام أو المرحلة معناه الموت المعنوي .
فنتج من اتباع تعاليم هذه المناهج والمدارس القديمة زيادة للحجب المبعدة عن الله تعالى بأنواعها وخاصة النورانية منها وبدرجة أقل حجب الظلمة فضلاً عن الحجب العقلية المتكونة سلفاً من دراسة العقائد بشكل عقلي محجوب وعلم الكلام والفلسفة بشتى مدارسها، فاعتمادها على أوراد ومكاشفات صورية وهمية من صنع النفس، والقلب المحجوب وكرامات دانية ممكن أن يأتي بها أي زاهد أو متعبد حتى وإن كان غير مسلماً، أدى إلى فهم العرفان بشكل خاطئ فظنوا أنه الحق من ربهم كما تبين الآية الكريمة { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } النجم 23

كذلك قول مولانا الصادق عليه السلام {إن لله سبعين ألف حجاب من ظلمة وسبعين ألف حجاب من نور}1 فعبدوا الحجاب دون الله.

ومما تقدم اتضح للقارئ اللبيب والذي ينظر بمنظور المذهب والمنهج الحديث للعرفان، ومبادئ الأخلاق مدى الخلط والفهم الخاطئ لتعاليم القرآن وأحاديث الرسول وآل بيته الأطهار صلى الله وسلم عليهم أجمعين، هذه التعاليم المبنية على أسس دقيقة في الأخلاق والتربية العرفانية الروحية، الأمر الذي ولد الحاجه لمذهب ومنهج يلبي ويستوعب كل المستويات من المستوى الأخلاقي إلى المستوى العرفاني الواقعي منهج يحاكي جميع طبقات المجتمع فلكل إنسان حق وحظ من التكامل والرقي الروحي، ونتيجة للتقدم والتكامل الذي حصل ويحصل لدى طلاب الحقيقة ومستحقي الكمال خلال العقود الثلاثة الماضية، وتكامل الاستعداد لدى هذه الاجيال لتلقي ما هو أفضل وأرقى من المذاهب القديمة، وبما أنه حسب القاعدة العرفانية الحديثة كل استعداد حقيقي للإنسان لابد أن يقابله استحقاق سماوي استجاب الله لها، ولبى وقابل الاستعداد باستحقاق لا نظير له فهو جل وعلا أكرم الأكرمين بهبة سماوية بشرية يندر الزمان أن يأتي بمثلها هبة المذهب الحديث للعرفان على يد رجل من خاصته وولي من أوليائه أحيا الله به شريعته بعد موتها *، ونحن هنا لا نتعصب إلا للحق فرأينا الحق في منهج هذا الولي المقدس منهجاً شاملاً متكاملاً يحاكي كما أسلفنا كل طبقات المجتمع والوصول إلى مستوى وعي كل إنسان من حيث رؤيته الشمولية وإيمانه وعقيدته بالارتقاء بالبشرية إلى مستوى يؤهلها إلى تكوين المجتمع المثالي من خلال وضع بذور الإصلاح في جميع نواحي الحياة وتأسيس القواعد الشعبية المستعدة لظهور المخلص الأقدس مهدي هذه الأمة عجل الله فرجه الشريف، وأفضل دليل على أحقية هذا المنهج هو ما لمسناه على أرض الواقع وما فعله في الارتقاء عملياً خلال سنوات قليلة بكافة طبقات المجتمع العراقي رغم خضوع العراق في تلك الفترة لحكم أعتى الطغاة في عصرنا الحاضر إلا أن ذلك لم يثني عزيمته في إرساء المنهج الحديث المتكامل الشامل لكل جوانب الإسلام المحمدي من ظاهر الشريعة مروراً بالمستوى الأخلاقي صعوداً إلى المناهج العرفانية، وتغييرها وإعطاء نموذجاً كاملاً لازال حياً وينتظر التطبيق الكامل والخروج به من حيز المجتمع العراقي إلى البشرية كافة وهذا ما نصبوا إليه في هذا الموقع ليكون منصة ومنبراً لإيصال ما عجز عنه الآخرين، وبوابة تطل وتلبي حاجة كل طالب كمال وإصلاح في ذاته أو في مجتمعه .
وسوف نستعرض منهاج السيد الشهيد الصدر الثاني في حقل خاص به لتوضيح الأسس والقواعد الحديثة التي جدد بها المناهج والمذاهب القديمة

والحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين

* النورانية: كمصطلح معرفي لها مفهومين قديم وحديث
قديماً وحسب المذاهب والمناهج العرفانية القديمة لابل في كثير من الروايات الواردة عن أهل البيت عليم السلام كانت تعرف بأنها الطريق العرفاني الحق للمسير نحو الله، إلا أنه وحسب الرؤية والتجربة التي عشناها حسب المذهب العرفاني الحديث وصلنا إلى قناعة واقعية بأنها لا تمثل العرفان بشيء فقط هي عبارة عن حجب نورانية، ومن هنا جاءت تسميتها كما ورد في حديث مولانا الصادق عليه السلام الذي ذكرناه أعلاه { إن لله سبعين ألف حجاب من ظلمة وسبعين الف حجاب من نور } وقد بينا مصدر هذه الحجب وكيف تتكون وما هو تأثيرها على سالك طريق العرفان .

* الروحانية: كذلك هي الأخرى كمصطلح معرفي لها مفهومين قديم وحديث وتكاد تكون مع النورانية وجهان لعملة واحدة حسب حديث مولانا الصادق أعلاه، حيث كانت قديماً أيضاً تمثل وتعرف بأنها الطريق العرفاني الحق للمسير نحوه تعالى شأنه حيث اختلطت على أهل المذاهب العرفانية القديمة
مثل هذه المصطلحات هي والنورانية وفهموا منها أنها تسميات ومفاهيم تمثل العرفان، وقد يكون هذا صحيحاً في سالف الأزمان حيث كان يطلق على الإنسان السالك والعارف بالله بالروحاني، أو النوراني ولازالت المذاهب والمدارس العرفانية القديمة تطلق هذه التسميات وتستعملها، إلا أنه وحسب الرؤية والمذهب العرفاني الحديث أخذ مفهوم الروحانية مأخذاً تسافليا حيث أصبح مصطلحاً فضفاضاً فحتى الساحر والذي يتعامل مع عالم الجن ورد السحر صار يطلق عليهم روحانيين فاختلط على الناس في عصرنا الحاضر من هو الروحاني، وهو الى هؤلاء أقرب من أن يكون قريبا من العرفان بينما هي واقعاً تمثل حجب الظلمة والعوالم المتسافلة وفيه تفصيل سوف نتناوله بالبحث بشكل اوسع .

* ورد في الحديث {إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها}2

 

الشيخ علي بدر المالكي

……………………………………………………………………………………………….

(1) بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٥٥ – الصفحة ٤٥
(2) ورد في ميزان الحكمة ج 3 ص2554 – كنز العمال 34626-34623