العرفان

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسّلام على محمد وآله الكرام

العرفان
العرفان قديم قدم الإنسان، وهو المسير في الكمال اللامتناهي المؤدي لمعرفة الله الموجبة للتكامل منه عبر غريزة الشوق للكمال، المركوزه في ذواتنا كمّا يدل على ذلك الحديث القدسيّ {كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت خلقاً فعرفتهم بي،فبي عرفوني}
فالطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، حيث وضع الحق تعالى هذه الطرق، وجعلها أبواباً لمعرفته، وتكامل الخلق عامة، والإنسان خاصة، ولكل طريق استعداده الخاص به فبعضها لا بل أغلبها لا توصل للغاية المنشودة لأنها توصل إلى أبواب متناهيه.

إلّا طريق واحد وهو الذي خطّه أئمتنا عليهم السلام، وارتضوه لنا وللبشرية جمعاء، وهو طريق العرفان فهو أسلم طريق للمسير نحو الحق تعالى فهو لا نهائي الغاية.
فالعرفان المحمدي: هو المسير في الكمال اللامتناهي المؤدي لمعرفة حقيقة النفس، ومن ثمّ إلى معرفة الله الموجبة للتكامل منه وإليه وذلك كما ذكرنا عبر غريزة الشوق للكمال المطلق المركوزة في ذواتنا.
كذلك العرفان : هو معرفة جزئيات، وحقائق الموجودات المعنوية المقربة لله تعالى لا المبعدة عنه كما يقول الإمام الحسين عليه السلام في تتمت دعاء يوم عرفه { إلهي تعرفت إليّ في كلّ شيء فرأيتك ظاهراً في كل شيء عميت عين لا تراك } .

ولا نريد التعمق في المصطلحات وننسى أنّنا في بدايات البحث عن العرفان واجهتنا المشكلة ذاتها وهي أن أغلب كتب العرفان والعارفين تكون مغلفة بكلام فلسفيّ، وعقليه، ومناهج متوارثة عبر أكثر من جيل ولم تواكب التطور الحاصل لدى المتلقي بحيث تربك من يقرأها، ويضيع فيها ولا يخرج بنتيجة واضحة لمعرفة طريق العرفان والسير فيه لذا صار العرفان غريباً عن غالبية المجتمع وفهم على أنه منهج صعب له أهله وهو ممنوع على العوام.

إذاً لابد من السعي لإيجاد منهجاً ولغةً سلسةً لإيصال المنفعة لأكبر عدد ممكن، وهذا ما سوف نتبناه في هذا الموقع منهجاً يراعي غالبية طبقات المجتمع، منهجاً يوضح للمتلقي كإنسان مكلف من قبل الله سبحانه ويفهمه ما يجب عليه فعله تجاه خالقه من حيث إرشاده وتربيته روحياً، والوصول معه إلى أحقيّة التفكر، والمعرفة، والإيمان القلبيّ بأصول الدين وأن الفروع، وباقي العبادات لا تكفي وحدها للتقرب من الله ونيل مرضاته سبحانه وتعالى .

فالعرفان موجه للجميع كما هو واضح في الكثير من آيات القرآن الكريم {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} فصلت 53

فالعرفان كما أسميناه (أسلوب حياة وطريق إلى الله) ليس خاصاً بفئة معينة من المجتمع بل هو متاح للجميع فقط يحتاج الى أسلوب سلس ويراعي جميع مستويات الوعي المجتمعي كما لمسناه من تجربة المولى المقدس الشهيد الصدر الثاني قدّس الله سره الشريف لذلك وعبر دراسة أسلوبه ، وتطبيقه عملياً يمكننا إيصال العرفان إلى كافة المستويات مع مراعات التفاوت فيما بينها طبعاً فكان منبر الجمعة الشريف مركزاً لبث الوعي المعرفي لكافة الفئات لذا رأينا ثمرة هذا البث ، وفائدته تصل للمتلقي كل حسب استحقاقه، ولمس الجميع فائدة الأسلوب القائم على إيصال الأمر الإلهي بشكل سلس كما قدمنا فما خرج من القلب دخل إلى القلب مباشرة، ومن هنا نستطيع التكلّم عن فائدة العرفان وفضله بهكذا أسلوب على مستويين :

الأول: فضل العرفان على سلوك الفرد.
الثاني: فضل العرفان على المجتمع كدعوة إلهية عامة.

الاول: فضل العرفان على سلوك الفرد

بما أن العرفان وخاصة العملي منه يرتكز على أضعاف سيطرة النفس وتسلطها على كيان الإنسان كله من خلال مخالفتها ومجاهدتها { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} العنكبوب 69 ،وعدم الرضوخ لمطالبها بعد أن يعرف أن أعدى أعدائه هي النفس حيث رسم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم بداية هذا الطريق بالحديث المشهور بالجهاد الأكبر حيث روي ما مضمونه ( أنه حين رجع أصحاب الرسول من إحدى غزواته المهمة كبدر أو أُحد قال لهم رجعتم من الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر قيل وما الجهاد الأكبر يا رسول الله قال جهاد النفس )(1) ، وبالتالي تأتي ثمرة هذا الجهاد بإفراغ وتخليص الذات الإنسانية من الصفات النفسية الظلمانية واكتساب الصفات والأخلاق الإلهية كما ورد في الحديث { تخلقوا بأخلاق الله}(2) فيتفرغ ولو بشكل نسبي لهدفه الأساس وهو الوصول والدخول إلى التوحيد الخالص توحيداً روحياً وذوقياً لا عقلياً مجرداً كما في العرفان النظري أو الفلسفة، وفي سبيل التوحيد الحق لابد من القضاء على سبب الاشراك الرئيسي ألا وهي النفس {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} الجاثية 23، وذلك بعد التجرد والتخلص من عبادة التجار، وعبادة العبيد فالناس في العبادة كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام(3) ثلاثة إصناف:

– ناس عبدوا الله خوفاً من ناره فتلك عبادة العبيد.
– وناس عبدوا الله طمعاً في جنته فتلك عبادة التجار.
– وناس عبدوا الله لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته فتلك عبادة الأحرار.

فيصل إلى عبادة الأحرار، وتتجلى له حقيقة العبودية، ومقام الربوبية وعلاقته بمقام الألوهية، ويدرك أنه ليس ثمة وصول بل أنه طريق لامتناهي الغاية. ومن هنا يبدأ المريد في الاتزان أخلاقياً، وروحياً بعد الاكتساب من نور الحضرة الإلهية فيكتسي بأخلاق الله، وصفاته فينعكس هذا عليه داخلياً، وخارجياً من حيث وجود السكينة والاطمئنان القلبي بإرجاع الأمور كلها لله ومعرفة دوره كإنسان خلق ليكون خليفة الله في أرضه فينتفي عنده حب الدنيا ويتجرد من الماديات بكل ملذاتها، ولكن ليس كالصوفية بل باعتباره عنصراً فعالاً في المجتمع فالعرفان يوجب على سالكيه واجبات أخلاقية والعمل لأجل الكمال العام للبشرية وبالتالي لا ينظر إلى كماله الخاص بل عليه بعد انعكاس نور الحقيقة وتجليها فيه أن يظهرها للخلق وللناس بالهداية والدعوة إلى الإصلاح فيكون هو أيضاً مكلفاً بإيصال غيره إلى ما وصل إليه بل أكثر من ذلك.

الثاني: فضل العرفان على المجتمع كدعوة إلهية عامة

لا يخفى على القارئ اللبيب بعد الذي بيناه في فضل العرفان على سلوك الفرد وتكامله مدى انعكاس وأهمية ذلك وتأثيره على المجتمع لا بل يتعداه إلى مجتمعات أخرى، حيث يقول الحقّ تعالى في كتابه الكريم {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر} ال عمران 110.

فخير الأمم هي التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فإذا لم تفعل رفعنا عنها صفة الخيريّة، وما هو أفضل من العرفان ليكون هادياً وآمراً بالمعروف بإصلاح النّفس، وناهياً ومطهراً من المنكر ب {إزالة أدران النفس وظلمتها}.
فالأمة واقعاً هي المجتمعات، وأساس المجتمع هو العائلة، وأساس العائلة هو الفرد خاصة الموجه والأب أي الراعي {كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته} فلو كان إصلاح الفرد ليس مهما لما قال سيد المرسلين لسيد الأوصياء صلوات الله عليهما وسلم رسولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله- لعليٍّ عليه السلام لَمّا بَعَثَهُ إلَى اليَمَنِ -:( يا عليُّ ، لا تُقاتِلَنَّ أحَداً حتّى‏ تَدعُوَهُ ، وايمُ اللَّهِ لَأن يَهدي اللَّهُ على‏ يَدَيكَ رجُلاً خَيرٌ لَكَ مِمّا طَلَعَت علَيهِ الشَّمسُ وغَرَبَت ، ولَكَ وَلاؤهُ يا عليُّ )4

وهذا يفسر مدى أهمية الإصلاح التربوي الأخلاقي والروحي، فالعلاقة التبادلية بين الفرد والمجتمع يطهرها العرفان من جميع نواحي الحياة فالعرفان الذي أغلب البشرية غافلة عنه يعد الحل الأمثل لكل مشكلة مجتمعيه فهو الجانب المهم من الدّين الإسلامي المحمدي الذي لم يتم تطبيقه بل اكتفي بالظاهر من الفروع أي أمور الشريعة التقليدية وترك الجانب المكمل، والأكمل، والأهم أي الجانب الأخلاقي والعقائدي العرفاني , فالإسلام دين متكامل بدليل القرآن إذ يقول الله تعالى فيه { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً } المائدة3، فجعل الله فيه تبيان كل شيء، إلا أنه وللأسف جرى تغييب الجزء المكمل منه من قبل أهل الفروع وأصحاب المباحث الأصولية من حيث يشعرون أو لا يشعرون، ففاقد الشيء لا يعطيه لذا أصبح دين الفرد المسلم ناقصاً غير مكتمل فلو سألت أحدهم ما هي أصول دينك سيقول الصلاة، والزكاة وغيرها من الفروع بينما أصول الدين من توحيدٍ، وعدلٍ، ونبوةٍ، وإمامةٍ ومعادٍ مغيبة وغائبه عن الغالبية، { قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا }5 هكذا بدأ الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم دعوته لدين الله الحق ومن ثم أمر بالفروع فلا يمكن التقليد في أصول الدين أنت تتبع المجتهد الأعلم بالفروع أما الأصول فيجب أن تؤمن بها قلبياً وهنا يأتي دور العرفان بترجمته لهذه الاصول للفرد ذوقياً وروحياً لا عقلياً فقط.

لذا ومن هذا المنطلق نتجه من وعبر هذا الموقع إلى إيصال رسالة الحقّ تعالى، ورسوله الأمين، والأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بطرح منهاج وسطيّ متوازن من الأخلاق، والعرفان يمكن أن يوصل هذه العقيدة الواجبة على المسلمين لا بل على البشرية كافة منهجاً تربوياً عقائدياً روحياً يراعي مستوى المتلقي، ويتدرج به صعوداً إلى مراتب السموّ، والرقيّ التكامليّ فيكون ظاهره الأخلاق، وباطنه المعرفة ليكون مصداقاً لقول الإمام الحسن عليه السلام:
{نحن أهل البيت ظاهرنا الأخلاق وباطننا المعرفة}

والحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين

الشيخ علي بدر المالكي

……………………………………………………………………………………………..
(1) قال الامام علي عليه السلام : ان رسول الله بعث سرية فلما رجعوا قال مرحبا بقوم قضوا الجهاد الاصغر وبقي عليهم الجهاد الاكبر قيل وما الجهاد الاكبر يا رسول الله ؟ قال جهاد النفس وقال افضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه معاني الاخبار 160/1
(2) بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج ٦١، ب ٤٢، ص ١٢٩
(3) حيث ورد في شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد جزء 19صفحة 68 ( إن قوما عبدوا الله رغبه فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.)
(4) ميزان الحکمه المجلّد التّاسع
(5) بحار الانوار للمجلسي جزء 18 صفحة 202