بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله الكرام
العرفان طريق أهل البيت عليهم السلام
ونبدأ من حيث انتهينا في باب العرفان في القرآن، ونتوسم طريق العرفان من خلال حديث الثقلين، حيث أرسى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طريقين لا ثالث لهما من أجل الرجوع الى الله، والوصول الى حقيقة ذواتنا المتصلة بالحق المطلق، والتكامل الذي أوجبه الله علينا في توحيده اللامتناهي المتمثل في الوصول إلى حقيقة العبودية طريقان لا يفترقان حتى يردا ويصلا إليه صلى الله عليه وآله وسلم :
– طريق القرآن الكريم
– وطريق العترة الطاهرة صلوات الله عليهم
وقد بينا في الباب أعلاه أن كلا الطريقين مترابطين، ومتداخلين ولا يمكن الفصل بينهما فهما يسيران في خطين متوازيين يكمل أحدهما الآخر، فلابد من تفاعل القرآن في الإنسان حتى يصل إلى الغاية المنشودة ولا يمكنه الوصول إلا بعد أن يوالي العترة الطاهرة، ويتبع المنهاج الذي رسموه لنا من خلال تجربتهم الشخصية في علاقتهم مع الله جل جلاله وكيف وضعوا لنا المثال الأمثل والقدوة العليا من أجل اتباعها، وتقفي أثرها سواء عبر تجربتهم أو عبر الإرث الذي تركوه لنا من درر، وأحاديث بل قوانين واجبة الاتباع ومن دونها الهلاك، فهم سلام الله عليهم القرآن الناطق ولا يفهم القرآن الصامت إلا من خلالهم كما بينا في التأمل بحديث الأمير عليه السلام سابقاً .
فمن الجلي أن أطهر الخلق وأكثرهم قابلية لتجلي أنوار الحق هم الرسول والأئمة الأطهار، وهم أكثر قابلية لتنزيل العطاء من مستوى الصدور إلى مستويات البشرية والخلق.
إذاً أفضل الطرق بل أوحدها للوصول إلى الكمال هم المعصومون صلوات الله عليهم ، فالوصول الى الله بالله هو الأسمى، ودونه خرط القتاد فتكون الرحمة فيه مضاعفة لشفاعة المعصوم سواء كانت في الدنيا، أو الآخرة فلا وصول وتكامل حقيقي إلا بشفاعتهم أي باتباع نهجهم، فالشفاعة تترجم عملياً بالاكتساب من كمال وباطن المعصوم (فمن اتصل بشيء اكتسب منه) فجعل الإمام المعصوم واسطة بين طالب العرفان ومطلوبه (الله جل جلاله) هو أفضل طريق كما يقول الإمام الصادق عليه السلام :
{نحن فوق المخلوق ودون الخالق}
فهم الواسطة بين المخلوق والخالق، لأن الواسطة فوق شيء ودون شيء، فيكون اتباع خطاهم وطريقهم هو أسلم الطرق للوصول والحصول فقد قال الرسول الأعظم لأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما:
(ثلاث أقسم أنهن حق: أنك والأوصياء من بعدك عرفاء لا يُعرف الله إلا بسبيل معرفتكم، وعرفاء لا يدخل الجنة إلا من عرفكم وعرفتموه، وعرفاء لا يدخل النار إلا من أنكركم وأنكرتموه)1
وهذا القول يحصر المراتب الثلاث بهم صلوات الله عليهم.
الأولى: من أراد طريق العرفان سار على طريقهم واتبع نهجهم الباطني العرفاني.
الثانية: من أراد المرتبة الثانية (الجنة) والتي هي أدنى من الأولى وهي عطاء الله، وليس الله سار على نهجهم الظاهري الذي يوصل إلى الجنة فقط.
الثالثة: ومن أراد الثالثة وهي أدنى من الأولى، والثانية سار على عكس منهجهم فيتحقق له ما أراد.
وفي موضع آخر يقول الأمير سلام الله عليه:
(أنا وجه الله)2
أي أنا الطريق الموصل لمعرفة الله سبحانه، لأن الوجه هو أدل دليل على معرفة الشيء، نعم قد تكون معرفة الشيء من غير الوجه لكنها إن لم تكن ناقصة فهي أدنى مرتبة، إذ من خلال الوجه تكون أدق المعارف وأضمنها لهذا استخدم الأمير التعبير بالوجه.
وبهذا يكون لا بد من وجود الأئمة في كل عصر لأنهم الواسطة بين الخالق والمخلوق، فلو انعدمت الواسطة انقطع الاتصال وهذا محال وقد دلت عليه الكثير من أحاديثهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
– أقوال الأئمة وموقعها في عالم المعنى والعرفان:
إن كل من بلغ المعرفة فقد غرف من بحر علم الله اللدني (واتقوا الله ويعلمكم الله)- البقرة 282 -فيكون في ذلك المقام عارفاً بالله في الله فيصبح لبعض أقواله باطنا، أما إذا وصل إلى الفناء الصفاتي الثاني وأعني به الحقيقي فسيكون لكل ما يصدر منه باطناً أو أكثر.
وبما أن الأئمة وصلوا إلى أعلى مراتب الكمال حتى كانوا صفات الله أصبح لقولهم ظاهراً مقصوداً وباطناً مقصوداً حتى قال الإمام الصادق عليه:
(إن الكلمة من كلامنا لتقع على سبعين وجه)3
وطبعاً السبعين على سبيل المثال وليس الحصر العددي، فيمكن أن يكون ألف وجه، فالذي يرتبط باللامتناهي يكون كل ما يصدر منه لا متناهي وبه يتجلى قرآن الله الناطق، حيث أن ما يصدر من المعصوم يمثل مجموع المراتب التي بلغها المعصوم، وبما أنهم سلام الله عليهم في مراتب معمقة من العرفان والكمال الفطري المستفيض من البقاء في الله والذي جعلهم في رتبة تأثير الصفات الإلهية كان لكلامهم سلطان نابع ومترشح من السلطان الإلهي، لذا أصبح لكلام المعصوم فائدة على مستوى السماع، أو القراءة، أو العمل والتطبيق ظاهراً وباطناً والسبب ما اكتسبه ذلك الكلام من كمال المعصوم المنقول إلى السامع والمؤثر به صعوداً، وهذا لا يقتصر على كلامهم فقط بل كل ما يصدر منهم حتى الصمت، وحتى لو كان الفعل أو القول مبهماً على البعض، فإن له تأثيراً تصاعدياً على المقابل فإذا جرد الإنسان قلبه وطرح القيود عن عقله عن طريق التربية الروحية والعرفان ومن ثم تفكر بأقوالهم كشف له باطن أقوالهم حسب المستوى العرفاني الذي وصل اليه .
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
الشيخ علي بدر المالكي
……………………………………………………………………………………………………..
(1) الخصال – الشيخ الصدوق – الصفحة ١٥٠
(2) بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٣٩ – الصفحة ٣٤٩
(3) بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – الصفحة ٣٤٩