بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله الكرام
العرفان في القرآن
في البدء كانت الفكرة في هذا الحقل هو استعراض الآيات الدالة على العرفان، وجهاد النفس، والتفكر، والتدبر وكفى وكان الله يحب المحسنين. لكن ما نفع هذا المحتوى لهذا الحقل وكل انسان يستطيع استخراج مثل هذه الآيات الكريمة من أي محرك بحث في الشبكة العنكبوتية، أو مراجعة مصدر مختص بهذا الأمر أي ما نفع هذا الحقل، أو الباب إذا كان هكذا مجرد تسطير آيات لذلك ومن خلال إلهام الله وتوفيقه عقدنا النية على أن يكون هذا الباب هو رؤية آفاقية وبوابة عرفانيه يهتدي بها الإنسان كما يهتدي البحارة قديماً بالنجوم لمعرفة طريقهم في البحر فالآيات هي نجوم السائرين في طريق الله يهتدون بها إلى سبل الرشاد { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } فصلت 53
فآيات الله أفاقيه تجعل الإنسان يتطلع الى الآفاق، والسمو المعنوي نحو الله تعالى، ولكنها قبل أن تكون كذلك وحسب التدبر المعنوي للآية أعلاه يجب أن تكون أنفسية أولاً لذلك جعل وربط بين الآفاق وبين النفس فمن خلال غوص الإنسان وتعمقه في معرفة نفسه تتجلى له الآيات أي الدرجات العليا في آفاق الروح والسير اللامتناهي نحو الله جلّ في علاه فقط يكفي أن نستعرض كلام سيد البلغاء أمير المؤمنين عليه السلام في وصف القرآن وكفى:
” ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوؤه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وبنياناً لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزا لا تهزم انصاره، وحقاً لا تخذل أعوانه “1
وقال عليه السلام: {بعث اللّه محمّداً بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشّيطان إلى طاعته بقرآن قد بيّنه وأحكمه، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه، وليقرّوا به بعد إذ جحدوه، وليثبتوه بعد إذ أنكروه، فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه، فأراهم حلمه كيف حلم، وأراهم عفوه كيف عفا، وأراهم قدرته كيف قدر، وخوّفهم من سطوته، وكيف خلق ما خلق من الآيات، وكيف محق من محق من العصاة بالمثلات واحتصد من احتصد بالنّقمات، وكيف رزق وهدى وأعطى..}2
ومن نحن حتى نضيف كلاماً أو شيئاً آخر لكلام سيد العارفين، ولكننا نعمل ونتبع نهجه كما أوصانا سلام الله عليه {ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينونا بورع واجتهاد وعفة وسداد}3 فهو القرآن الناطق ومثال أعلى لتربية الله ورسوله وكتابه المبين.
إذا فهو سلام الله عليه قد رسم لنا الطريق فما هي العفة، والسداد، والورع، والاجتهاد غير السير على نهجهم القرآني في نشر مكارم الأخلاق وعرفان الله والسير على هداهم في مجاهدة النفس، ونحن في هذا الحقل بينا وسنبين كيف طور المنهج والمذهب الحديث للعرفان المتمثل في منهج المولى المقدس السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس) الرؤية الجديدة للقرآن الكريم وآياته المباركة وكيف أن منهجه قد فتح آفاقاً وأبواباً واسعة في فهم العرفان من القرآن وكيف يطور فهمنا لآياته حسب رقينا الأخلاقي، وتقدمنا في طريق العرفان وجهاد النفس من خلال أطروحات راقية في تفسير الآيات وتأويلها، فالله جل جلاله جعل وخلق علاقة تبادلية تكاملية بين الإنسان والقرآن وقد تجلت هذه العلاقة في أعلى معانيها في قول الأمير عليه السلام وهو يخاطب القرآن :
{أنت القرآن الصامت وأنا القرآن الناطق}4
فمن خلال فهمنا لهذا القانون نكتشف القاعدة التبادلية بين الانسان والقرآن إلى أن يتحول القرآن في الإنسان عن طريق صعوده لسلم درجات الكمال الموجود في الآيات، حيث يعلمنا المنهج الجديد للعرفان لا بل يوجب على كل مريد لكمال الأخلاق وسالك للعرفان وجهاد النفس أن يجعل من الآيات من خلال التدبر والتفكر سبيلاً لمعايشة كل مرتبة أو مقام من مقامات العرفان وأسفاره كما في قوله تعالى:
{ورتل القرآن ترتيلا} المزمل 4
فظاهر الآية القراءة بتأني وترتيب، أما إذا تدبرنا وتفكرنا فيها فسنخرج بأكثر من أطروحة منها أي كمستوى أولي بينه تبيينا أو ارتقى به علواً وسمواً حيث التدرج في مواصلة التكامل في باطن القرآن كقوله تعالى:
{فإذا قرأناه فاتبع قرأنه ثم أن علينا بيانه} القيامة 18,19
فالخطاب ظاهراً موجه للرسول صلى الله على آله وسلم إلا أن القرآن لكل زمان ومكان حيث يكتمل الترقي العرفاني في طالب الكمال من الترتيل إلى قراءة القرآن قرآناً، لاحظ الترادف الاشتقاقي لكلمتي قرآن وعرفان :
فكلمة قرآن آتية من قرأَ، يقرأُ، قرأناً
وكلمة عرفان آتية من عرفَ، يعرفُ، عرفاناً
فقرآن هو الجمع أي إذا جمعناه فاتبع جميع أجزائه
وعرفان هو الجمع لكل مستويات المعرفة والحقيقة في الإنسان
فيكون المعنى التأويلي:
أنك يا إنسان جامع لكل مستويات الكمال اللامتناهي كالقرآن الجامع لكل مستويات الحقيقة المتجلية فيك من خلال الترتيل والتسلسل في درجات العرفان.
فتتجلى لنا علاقة العرفان بالقرآن فهي علاقة تداخلية تبادلية قاسمها المشترك هو الإنسان فكلاهما موجودٌ فيه، ومن هنا نفهم كلام الأمير عليه السلام فهو قد جمعهما معاً في وصفه كإنسان بالقرآن الناطق وأن القرآن صامت إذا لم يتجلى بالعرفان الناطق.
وعلى ذكر الناطق يتبين لنا أسلوب ومنهج السيد الشهيد الصدر الثاني الناطق بالحق والسائر على خطى جده أمير المؤمنين عليه السلام في إرساء فهماً جديداً للقرآن ومنهجاً لا إفراط ولا تفريط في دفاعه عن القرآن في كتابه منة المنان في الدفاع عن القرآن حيث قدم فيه الاطروحة الكاملة والتي تجلت في جانبين مهمين أحدهما يكمل الآخر
اولاً: الدفاع عن القرآن
ثانياً: النظرة الشمولية للقرآن نظام الاطروحة *
مؤسساً على حد قوله منهجاً تنتهجه الأجيال القادمة من بعده لتكملة التفسير حسب هذا المنهج والذي به فتح لنا أبواب معرفية لم تكن مطروقة من قبل في علاقة العرفان بالقرآن، ولا أبالغ إذا قلت إنه خير من عمل بوصية الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث الثقلين
(إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) 5
عندما جمع سماحته كلا الثقلين القرآن وعرفان أهل البيت في أطروحته ومنهجه الجديد في العرفان.
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على خير المرسلين محمد وآله الطاهرين
• نظام الأطروحة
هو نظام وضعه واعتمده السيد الشهيد الصدر الثاني في كل ما صدر منه كلامياً، أو كتابياً وتجلى خاصة في كتابه منة المنان في الدفاع عن القرآن ويعبر عنه الكاتب حيدر مهدي الكناني في بحث له عنوانه مشكلة القرآن في منة المنان ( وهو أسلوب يعتمد على إثارة الأسئلة فقد ربط سماحته السؤال المعبأ بإشكال فلسفي أو معرفي للوصول إلى غايات النص القرآني ومقاصده أو توضيح المعنى بمرآة الدلالة، ويبدو أن غاية السيد الصدر من إثارة السؤال ليس للحصول على جواب محدد بل هو فتح باب التفكر والتأمل للحصول على إجابات كثيرة تطل على المعاني التي تتوزع على الأطروحات إذاً الغاية هي ليس تحصيل جواب سريع، أو قطعي وإنما خلق جو مشحون بإمكانية المعرفة، يتولد من خلاله سؤال جديد وبذلك تتوالد المعرفة ويتناسل الفكر )
…………………………………………………………………………………………………
(1) نهج البلاغة الخطبة 196
(2) نهج البلاغة الخطبة 147
(3) شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ١٦ – الصفحة ٢٠٥
(4) ارشاد القلوب : ص249 ، وراجع العمدة : ص330 و وسائل الشيعة : ج27 ص34 ح33147
(5) وسائل الشيعة ج 27 ص 34